سورة الليل - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الليل)


        


{وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى (13)}
ففيه وجهان الأول: أن لنا كل ما في الدنيا والآخرة فليس يضرنا ترككم الاهتداء بهدانا، ولا يزيد في ملكنا اهتداؤكم، بل نفع ذلك وضره عائدان عليكم ولو شئنا لمنعناكم من المعاصي قهراً، إذ لنا الدنيا والآخرة ولكننا لا نمنعكم من هذا الوجه، لأن هذا الوجه يخل بالتكليف، بل نمنعكم بالبيان والتعريف، والوعد والوعيد الثاني: أن لنا ملك الدارين نعطي ما نشاء من نشاء، فيطلب سعادة الدارين منا، والأول أوفق لقول المعتزلة، والثاني أوفق لقولنا.
أما قوله تعالى:


{فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)}
تلظى أي تتوقد وتتلهب وتتوهج، يقال: تلظت النار تلظياً، ومنه سميت جهنم لظى، ثم بين أنها لمن هي بقوله: {لاَ يصلاها إِلاَّ الأشقى} قال ابن عباس: نزلت في أمية بن خلف وأمثاله الذين كذبوا محمداً والأنبياء قبله، وقيل: إن الأشقى بمعنى الشقي كما يقال: لست فيها بأوحد أي بواحد، فالمعنى لا يدخلها إلا الكافر الذي هو شقي لأنه كذب بآيات الله، وتولى أي أعرض عن طاعة الله.
واعلم أن المرجئة يتمسكون بهذه الآية في أنه لا وعيد إلا على الكفار، قال القاضي: ولا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها، ويدل على ذلك ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يقتضي أن لا يدخل النار إلا الأَشقى الذي كذب وتولى فوجب في الكافر الذي لم يكذب ولم يتول أن لا يدخل النار.
وثانيها: أن هذا إغراء بالمعاصي، لأنه بمنزلة أن يقول الله تعالى: لمن صدق بالله ورسوله ولم يكذب ولم يتول: أي معصية أقدمت عليها، فلن تضرك، وهذا يتجاوز حد الإغراء إلى أن تصير كالإباحة، وتعالى الله عن ذلك.
وثالثها: أن قوله تعالى: من بعد {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} [الليل: 17] يدل على ترك هذا الظاهر لأنه معلوم من حال الفاسق، أنه ليس بأتقى، لأن ذلك مبالغة في التقوى، ومن يرتكب عظائم الكبائر لا يوصف بأنه أتقى، فإن كان الأول يدل على أن الفاسق لا يدخل النار، فهذا الثاني يدل على أن الفاسق لا يجنب النار، وكل مكلف لا يجنب النار، فلابد وأن يكون من أهلها، ولما ثبت أنه لابد من التأويل، فنقول: فيه وجهان الأول: أن يكون المراد بقوله: {نَاراً تلظى} ناراً مخصوصة من النيران، لأنها دركات لقوله تعالى: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار} [النساء: 145] فالآية تدل على أن تلك النار المخصوصة لا يصلاها سوى هذا الأشقى، ولا تدل على أن الفاسق وغير من هذا صفته من الكفار لا يدخل سائر النيران الثاني: أن المراد بقوله: {نَاراً تلظى} النيران أجمع، ويكون المراد بقوله: {لاَ يصلاها إِلاَّ الأشقى} أي هذا الأشقى به أحق، وثبوت هذه الزيادة في الاستحقاق غير حاصل إلا لهذا الأشقى.
واعلم أن وجوه القاضي ضعيفة.
أما قوله أولاً: يلزم في غير هذا الكافر أن لا يدخل النار فجوابه: أن كل كافر لابد وأن يكون مكذباً للنبي في دعواه، ويكون متولياً عن النظر في دلالة صدق ذلك النبي، فيصدق عليه أنه أشقى من سائر العصاة، وأنه كذب وتولى وإذا كان كل كافر داخلاً في الآية سقط ما قاله القاضي.
وأما قوله ثانياً: إن هذا إغراء بالمعصية فضعيف أيضاً، لأنه يكفي في الزجر عن المعصية حصول الذم في العاجل وحصول غضب الله بمعنى أنه لا يكرمه ولا يعظمه ولا يعطيه الثواب، ولعله يعذبه بطريق آخر، فلم يدل دليل على انحصار طريق التعذيب في إدخال النار.
وأما قوله ثالثاً: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} فهذا لا يدل على حال غير الأتقى إلا على سبيل المفهوم، والتمسك بدليل الخطاب وهو ينكر ذلك فكيف تمسك به؟ والذي يؤكد هذا أن هذا يقتضي فيمن ليس بأتقى دخول النار، فيلزم في الصبيان والمجانين أن يدخلوا النار وذلك باطل.
وأما قوله رابعاً: المراد منه نار مخصوصة، وهي النار التي تتلظى فضعيف أيضاً، لأن قوله: {نَاراً تلظى} يحتمل أن يكون ذلك صفة لكل النيران، وأن يكون صفة لنار مخصوصة، لكنه تعالى وصف كل نار جهنم بهذا الوصف في آية أخرى، فقال: {كَلاَّ إِنَّهَا لظى نَزَّاعَةً للشوى} [المعارج: 15].
وأما قوله: المراد إن هذا الأشقى أحق به فضعيف لأنه ترك للظاهر من غير دليل، فثبت ضعف الوجوه التي ذكرها القاضي، فإن قيل: فما الجواب عنه على قولكم، فإنكم لا تقطعون بعدم وعيد الفساق؟
الجواب: من وجهين:
الأول: ما ذكره الواحدي وهو أن معنى: {لاَ يصلاها} لا يلزمها في حقيقة اللغة، يقال: صلى الكافر النار إذا لزمها مقاسياً شدتها وحرها، وعندنا أن هذه الملازمة لا تثبت إلا للكافر، أما الفاسق فإما أن لا يدخلها أو إن دخلها تخلص منها الثاني: أن يخص عموم هذا الظاهر بالآيات الدالة على وعيد الفساق، والله أعلم.
قوله تعالى:


{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19)}
معنى سيجنبها أي سيبعدها ويجعل منها على جانب يقال: جنبته الشيء أي بعدته وجنبته عنه، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: أجمع المفسرون منا على أن المراد منه أبو بكر رضي الله تعالى عنه.
واعلم أن الشيعة بأسرهم ينكرون هذه الرواية، ويقولون: إنها نزلت في حق علي بن أبي طالب عليه السلام والدليل عليه قوله تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزكواة وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55] فقوله: {الأتقى * الذي يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى} إشارة إلى ما في الآية من قوله: {يُؤْتُونَ الزكواة وَهُمْ رَاكِعُونَ} ولما ذكر ذلك بعضهم في محضري قلت: أقيم الدلالة العقلية على أن المراد من هذه الآية أبو بكر وتقريرها: أن المراد من هذا الأتقى هو أفضل الخلق، فإذا كان كذلك، وجب أن يكون المراد هو أبو بكر، فهاتان المقدمتان متى صحتا صح المقصود، إنما قلنا: إن المراد من هذا الأتقى أفضل الخلق لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} [الحجرات: 13] والأكرم هو الأفضل، فدل على أن كل من كان أتقى وجب أن يكون أفضل، فإن قيل: الآية دلت على أن كل من كان أكرم كان أتقى، وذلك لا يقتضي أن كل من كان أتقى كان أكرم، قلنا وصف كون الإنسان أتقى معلوم مشاهد، ووصف كونه أفضل غير معلوم ولا مشاهد، والإخبار عن المعلوم بغير المعلوم هو الطريق الحسن، أما عكسه فغير مفيد، فتقدير الآية كأنه وقعت الشبهة في أن الأكرم عند الله من هو؟ فقيل: هو الأتقى، وإذا كان كذلك كان التقدير أتقاكم أكرمكم عند الله، فثبت أن الأتقى المذكور هاهنا لابد وأن يكون أفضل الخلق عند الله، فنقول: لابد وأن يكون المراد به أبا بكر لأن الأمة مجمعة على أن أفضل الخلق بعد رسول الله، إما أبو بكر أو علي، ولا يمكن حمل هذه الآية على علي بن أبي طالب، فتعين حملها على أبي بكر، وإنما قلنا: إنه لا يمكن حملها على علي بن أبي طالب لأنه قال في صفة هذا الأتقى: {وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تجزى} وهذا الوصف لا يصدق على علي بن أبي طالب، لأنه كان في تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أخذه من أبيه وكان يطعمه ويسقيه، ويكسوه، ويربيه، وكان الرسول منعماً عليه نعمة يجب جزاؤها، أما أبو بكر فلم يكن للنبي عليه الصلاة والسلام عليه دنيوية، بل أبو بكر كان ينفق على الرسول عليه السلام بل كان للرسول عليه السلام عليه نعمة الهداية والإرشاد إلى الدين، إلا أن هذا لا يجزى، لقوله تعالى: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان: 57] والمذكور هاهنا ليس مطلق النعمة بل نعمة تجزى، فعلمنا أن هذه الآية لا تصلح لعلي بن أبي طالب، وإذا ثبت أن المراد بهذه الآية من كان أفضل الخلق وثبت أن ذلك الأفضل من الأمة، إما أبو بكر أو علي، وثبت أن الآية غير صالحة لعلي، تعين حملها على أبي بكر رضي الله عنه، وثبت دلالة الآية أيضاً على أن أبا بكر أفضل الأمة، وأما الرواية فهي أنه كان بلال (عبداً) لعبد الله بن جدعان، فسلح على الأصنام فشكا إليه المشركون فعله، فوهبه لهم، ومائة من الإبل ينحرونها لآلهتهم، فأخذوه وجعلوا يعذبونه في الرمضاء وهو يقول: أحد، أحد، فمر به رسول الله، وقال: ينجيك أحد، أحد.
ثم أخبر رسول الله أبا بكر أن بلالاً يعذب في الله: فحمل أبو بكر رطلاً من ذهب فابتاعه به، فقال المشركون: ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده، فنزل: {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تجزى * إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الأعلى} وقال ابن الزبير وهو على المنبر: كان أبو بكر يشتري الضعفة من العبيد فيعتقهم، فقال له أبوه: يا بني لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك، فقال: منع ظهري أريد. فنزلت هذه الآية.
المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف في محل: {يتزكى} وجهان: إن جعلت بدلاً من يؤتي فلا محل له، لأنه داخل في حكم الصلة، والصلات لا محل لها. وإن جعلته حالاً من الضمير في {يُؤْتِي} فمحله النصب.

1 | 2 | 3 | 4